الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
هذا وليعلم أن بني آدم يرون الجن في الآخرة وهم لا يرونهم عكس الدنيا ويكونون أي مؤمنو الجن في فنائها قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ 27} بنا ليزيدوا في غيهم ومن لم يكن وليه اللّه سلط عليه الشيطان {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً} مما يستقبح من الأفعال، والضمير، يعود إلى غير المؤمنين أولياء الشياطين ومنهم الطوافون عراة {قالُوا} لك يا حبيبي إذا نهيتهم عنها إنا {وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا} ولذلك نفعلها، هذه حجتهم الحقيقية والثانية قولهم بهت وافتراء {وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها} فرد اللّه عليهم بقوله: {قُلْ} لهم يا أكمل الرسل {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ}بل بالعفة والستر والصلاح وكل ما هو من شأن التقوى {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ} أيها الكفرة {ما لا تَعْلَمُونَ 28} حقيقة استفهام انكار جيء به للتوبيخ والتقريع {قُلْ} يا رسولي {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} العدل وكل ما هو مستقيم حسن طاهر فكيف تسندون له الأمر بالفحشاء ثم قال جل شأنه على طريق عطف الأمر على الخير وهو جملة {قُلْ أَمَرَ رَبِّي} أي {و} قل لهم {أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ} لأن الكلام فيه حذف وإضمار وأمثاله في القرآن كثير وهو إيجاز غير مخل وحاشا كلام اللّه من الخلل والنقص والزيادة الكائنة في كلام البشر بسبب الإيجاز والإطناب.وإنما يزيده براعة وبلاغة أي توجهوا اليه {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} تقصدون فيه عبادة ربكم {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} لا لغيره بالاستقامة الكاملة واعلموا أيها الناس أنه تعالى: {كَما بَدَأَكُمْ} من العدم أول مرة فعدتم أحياء في هذه الدنيا {تَعُودُونَ 29} اليه يوم القيامة أحياء كاملي الخلق لأنه تعالى يعيد لكم ما طرأ عليكم من النقص في الدنيا ويجمع كل أجزائكم المتفرقة بعد الموت وتحشرون اليه المؤمن مؤمنا والكافر كافرا، يؤيد هذا قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدى} وهم الذين خلقوا في الأزل مؤمنين لاتباعهم طريق الحق الذي خلقوا اليه {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} وهم الكافرون في سابق علمه وذلك {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} باختيارهم ورضاهم وإيثارهم عليها {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ 30} بفعلهم ذلك مع ما هم عليه من الضلال، كلا ان زعمهم هذا باطل روى مسلم عن جابر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم «السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه» وقوله «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» فالمخلوقون للجنة لابد وأن يختم لهم بصالح العمل وان فعلوا ما فعلوا من الشر بتوفيق اللّه والمخلوقون للنار لابد وأن يختم لهم بسيئة وان عملوا ما عملوا من الخير يخذلان اللّه ايّاهم.قال تعالى: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} من اللباس النظيف الحسن والطيب والدهن وترجيل الشعر وتنظيف البراجم والأسنان لأن الصلاة مناجاة للرب فيستحب لمن يقف أمام ربه أن يتزين له بكل انواع الزينة المباحة شرعا ليكون طاهر البدن والثوب والمكان طاهر القلب، فلا يليق بالمسلم إذا دعي لوليمة أو مقابلة ذي جاه أن يتزين له بما يقدر عليه حتى أن بعضهم ليستعير أو يستأجر ما يتزين به، وة أو رؤية حية أو عقرب قرب غافل أو صغير أو مرور من تحت جدار متداع أو نداء والد لولده لا يعلم أنه في الصلاة، وإنه رحمه اللّه قطعها خوف فوات الخشوع المطلوب في الصلاة، لأن انشغاله برائحة كريهة تسبب ضياعه، والسرعة في إنهاء الصلاة قد توجب نقصا فيها.وليس المراد في هذه الآية الصلاة المكتوبة لأنها لم تفرض بعد وإنما أراد الدخول لكل مسجد يقف فيه العبد بين يدي ربه لصلاة أو عبادة أو اعتكاف أو طواف بالمسجد الحرام، قال ابن عباس كانت المرأة تطوف بالبيت عارية تقول من يعيرني تطوافا أي خرقة تجعلها على عورتها ثم تقول:
فنزلت هذه الآية، أخرجه مسلم.وقال مجاهد كان حي من اهل اليمن إذا قدم حاجا يقول لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب عصيت به ربي فإن قدر على أن يستعير مئزرا فعل وإلا طاف عاريا فنزلت وسيأتي زيادة توضيح لهذا البحث في الآية 197 فما بعدها من البقرة في ج 3 إن شاء اللّه.وهذا الأمر للوجوب وفيه دليل وجوب ستر العورة بما يواريها من الثياب الطاهرة. .مطلب في الأكل المسنون وذم الشبع وبعض وصايا اللّه لعباده فيه: قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} مما أحل لكم من أنواع الطعام وأجناسه والشراب وأصنافه، قال الكلبي كانت بنو عامر في ايام حجهم لا تأكل دسما تعظيما، فقال المسلمون نحن أحق بتعظيم اللّه وبيته منهم يا رسول اللّه فأولى أن لا نأكل، فأنزل اللّه هذه الآية.فلما أباح اللّه لهم ذلك نهاهم عما من شأنه أن يكون منهم فقال: {وَلا تُسْرِفُوا} فيما أحله اللّه لكم من طيبات الأطعمة والأشربة بأن تتجاوزوا حدّ الشبع وتفرطوا في تعدد أوقاته وأنواعه، فإن الأكل في اليوم مرتين من الإسراف المذموم المنهي عنه شرعا، ومن الإسراف بل والشره أن يأكل كلما يشتهي، اخرج أبو نعيم عن عمر بن الخطاب قال إياكم والبطنة من الطعام والشراب فأنهما مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فانه أصلح للجسد وابعد من السرف وان اللّه يبغض الحبر السمين لأنه لو كان يتعظ فيما علم لأضعفه الخوف من اللّه ولهذا قالوا ان القاضي إذا سمن بعد توليه القضاء فهو دليل على عدم اهتمامه بأمور الناس، وان الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه ومن وصايا أطباء اليابان لا تأكل اللحم إلا مرة في اليوم ولا تشرب مسكرا ولا تدخن واكتف بقليل من القهوة والشاي واستحم يوميا بالماء الساخن وارتد الصوف الخفيف صيفا وشتاء ونم باكرا وأفق باكرا لتنعش بالهواء الطلق ودع غرفتك مفتوحة ليلا واجتنب المؤثرات العقلية واحرص على الراحة يوما في الأسبوع وتزوج البكر وخالط العلماء.وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن أنس قال قال صلّى اللّه عليه وسلم ان من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت.واخرج البيهقي عن عائشة قالت رآني صلّى اللّه عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين، فقال يا عائشة أما تحبين ان يكون لك شغل إلا في جوفك، الأكل في اليوم مرتين من الإسراف.وعليه فيكون الأكل الشرعي مرة في الصباح ومرة في المساء، قال تعالى: من حق اهل الجنة {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} الآية 62 من سورة مريم الآتية فإذا أكل نهارا مرتين وأكل مساء اخرى كان مسرفا، ولا شك ان الاكل يختلف باختلاف الأشخاص والأمكنة.واخرج ابن ابي شيبة عن ابن عباس انه قال: كل ما شئت والبس ما شئت ما اخطأتك خصلتان سرف ومخيله.وهذا لا ينافي ما ذكره الثعلبي وغيره من الآدباء بأنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما تشتهيه الناس وهو عندي مطلوب لأن ما يأكله لا يطلع عليه أحد وما يلبسه يظهر للناس وهو من الاقتصاد بمكان.ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني فقال يوما لعلي بن واقد: أليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان؟ فقال له جمع اللّه الطب كله في نصف آية، قال ما هي؟ قال قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} فقال وهل يؤثر عن رسولكم شيء في الطب؟ فقال قد جمع الطب كله في ألفاظ يسيرة، قال وما هي؟ قال قال «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأعط كل بدن ما عودته». فقال: النصراني: واللّه ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.- من الكشاف- قال ومن النصائح الطبية ما قاله الحارث بن كلدة من حكماء العرب الأقدمين: لا تتزوج من النساء إلا شابة، ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها، ولا يتعالج المريض ما احتمل بدنه الداء.هذا وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31} في الأكل والشرب واللبس وغيره، والذي لا يحبه اللّه يبغضه فعلينا ان نجتنب ما يكرهه ربنا.واعلم ان هذه الآية والتي قبلها لا تتعارضان مع الآية 6 من سورة التكاثر المارة لأنه ليس كل شيء يسأل عنه المرء يوم القيمة يعاقب عليه فضلا عن تلك وردت عامة وهاتين جاءتا بمعرض الرد على الكفار الذين يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم.الا فلينتبه العاقل ويجتنب الإسراف المنافي لرضاء اللّه والويل كل الويل لمن لا يرضي اللّه.ويا سيد الرسل {قُلْ} لهؤلاء المتعجرفين عما أحل اللّه لهم من الطيبات الزاعمين تحريمها او كراهتها في بعض الأوقات والأمكنة والأحوال {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ} من الأرض وأنزلها من السماء لنفعهم من حيوان ونبات ومعدن وما يعمل ويحصل منها {وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} الذي يستلذ به الإنسان، وفي هذه الآية دليل على ان جميع المطعومات والمشروبات والملبوسات حلال طيب، تؤيدها الآية 29 من البقرة وهي جملة {خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} لان الأصل في جميع الأشياء الحل والإباحة الا ان الشارع خصص هذا العام والتحليل والتحريم من خصائص اللّه ورسوله ليس لأحد من البشر مهما علت رتبته في العلم والمعرفة وما سمت فطنته في الحذق والفهم وما رفعت مكانته في الإمارة والسلطة ان يحل شيئا مما حرم اللّه ورسوله او يحرم شيئا مما أحلاه، والآية تتناول جميع اصناف الزينة ولولا ورود النص بالذهب والفضة والحرير بحديث رسول اللّه والخنزير والميتة والدم والخمر والميتة في كتاب اللّه، لدخلت في هذه الآية لعموم نصّها المؤيد بقوله جل قوله: {قُلْ} يا محمد لأمتك كل ما يستلذّ ويشتهى عدا ما ورد النهي فيه هو من الطيبات التي {هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} غير خالصة لهم وحدهم لأن الكفار والفساق يشاركونهم فيها جميعها ويزيدون عليهم ولكنها {خالِصَةً لهم} أي للمؤمنين وحدهم {يَوْمَ الْقِيامَةِ} في جنة اللّه لا يشاركهم فيها أحد من أولئك الكفرة وهي لهم خالية من الكدر والتنغيص والأذى بخلاف شهوات الدنيا فمحشوة بذلك مملوءة من الأكدار، وإيجاد هذه الطيبات في الأصل للمؤمنين في الدنيا ايضا وصارت للكافرين بالتبعية ولكنها لم تصف للمؤمنين وفيه قيل:وخالصة بالرفع على انها خبر لمبتدأ محذوف وقرأت بالنصب على انها حال من الضمير الذي في الظرف الذي هو الخبر أي هي ثابتة الذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها يوم القيمة والأول أوجه من حيث الإعراب والقراءة بالمصاحف على النصب لذلك كان اولى من الرفع قال تعالى: {كَذلِكَ} أي مثل هذا التفصيل البديع {نُفَصِّلُ الْآياتِ} ونوضّحها ونبيّنها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 32} حقائقها وخصائصها ويعتقدون ان اللّه وحده المحلل والمحرم لا غيره {قُلْ} يا حبيبي لهؤلاء الكفار {إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ} كل ما تزايد قبحه فهو فاحش {ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} سرها وجهرها {وَالْإِثْمَ} من كل ما يؤثم الإنسان فعله في جميع ما يطلق عليه اسم الذنب، وقد ذكر التعميم بعد التخصيص لئلا يتوهم ان التحريم مقصور على الكبائر الفاحشة من قول أو فعل لكنها صرفت في العرف الآن إلى الزنى واللواطة فاذا أطلقت انصرفت إليهما والا ففي الأصل لا تقتصر عليهما. .مطلب معنى الإثم والبغي: وأما ما جرى عليه بعض المفسرين من أن الإثم هو الخمر فلا دليل عليه، بل لا يصح لأن العرب لم تسمها بهذا الاسم في الجاهلية ولا في الإسلام.نعم هي داخلة تحت الإثم لأنها سببه، ولأن مرتكبها آثم، إلا أن هذا لا يصرف معنى الإثم إليها فتفسيرها بالخمر خطأ بين بل غلط واضح، وليعلم أن الخمر حرمت بالمدينة بعد واقعة أحد ولم يقل أحد بأن هذه الآية مدنية لينصرف معناها إليه ولو كان مراد اللّه في هذه تحريم الخمر لما وردت الآيات بعدها بالتحريم تدريجيا باسمه الصريح المتعارف، إذ لو كان المراد بكلمة الإثم لكان المنهي عنه صريحا وكان بتا، ولا داعي حينئذ لتحريمه بعد ورود الآيات متتابعة أولا في النهي عن تعاطيه تعريضا في الآية 67 من النحل في ج 2، ثم النهي عن تعاطيه في الآية 219 من البقرة بسبب نفعيته وائمه، ثم في الصلاة في الآية 42 من النساء ج 3، ثم في الكف عنه جزما في جميع الأحوال في الآية 90 من المائدة أيضا في ج 3، وهذا من مقاصد اقدامي على هذا التفسير بالنمط الذي سرت فيه ليعلم غير العالم هذا وشبهه مما هو مقدم أو مؤخر، مطلق أو مقيد، عام أو خاص، ناسخ أو منسوخ بالمعنى المراد فيهما واللّه الهادي إلى سواء السبيل.
|